وتشرق شمس الصباح لنسعد بطيب صحبتكم ويطيب صباحنا {مع قهوة يوم الجمعة}
بقلم:
رجاء حسين
{مقال 9}
{صفعات التاريخ}
عزيزي القارئ – اقرأ هذا المقال!
===========
لا أدري لماذا يتبادر إلى ذهني بشكل شبه متكرر صورة غزو المغول وسقوط بغداد في فبراير 1258 م، أشعر بغصة شديدة، يحترق قلبي؛ كلما تخيلت مشهد إحراق {دار الحكمة} والتي كانت بمثابة مجمع علمي للعديد من الكتب التاريخية وكتب الفلسفة وعلم النفس والطب والفلك وغيرها، وأنا أشاهد جسورا من العلم والثقافة والحضارة والتاريخ، متمثلة في أكوام من المخطوطات والكتب، بدلا من أن تكون جسرا ثقافيا ينقلنا من زمن إلى زمن أجمل وأرقى؛ إذ بهؤلاء الهمج، يجعلون منها جسرا يعبرون فوقه نهر دجلة، حتى تحول لون مياهه للون الأسود لعدة شهور؛ بسبب الحبر الذي كتبت به الكتب؛ يا للهول! هل يمكن أن نتخيل حجم ذلك التراث الذي حول لون النهر إلى اللون الأسود؟!
أتساءل دوما: هل يُعقل أن يضيع كل هذا التراث الإنساني الرائع بهذا الشكل؟ وكيف تغرق في لحظات جهود سنوات من الإخلاص والتفاني والسهر لإعلاء شأن العلم والثقافة لصنع أجمل مظاهر للحضارة سارت على نهجها البشرية بعد ذلك، وقامت على أكتافها نهضة أوروبا الحديثة؟
والسؤال الأكثر إلحاحا: إذا كان ما تبقى لنا بعد ذلك - وبعد تلك الهجمة البربرية – قد مثل قاعدة عريضة وثابتة انطلقت منها حضارة أوروبا؛ لدرجة أن كثيرا من كتب ومؤلفات تلك الفترة الزاهرة من حياة أمتنا ما زال يُدرس في جامعات أوروبا، أقول: إذا كان الأمر كذلك؛ فكيف كان سيصير الحال إذا لم يحدث ما حدث؟! وإذا ما ظل ذلك التراث الإنساني قائما بتمامه بين أيدينا حتى الآن؟!
كيف سيكون حالنا من العلم والثقافة؟! وإلى أي حد سيكون نصيبنا من الحضارة المعاصرة، بناء على هذا الإرث الضخم والرائع في جميع مناحي الحياة؟!
ويظل السؤال يلح ويلح؛ وأنا أحاول جاهدة إبعاد شبح إجابة خبيثة تتراءى لي وسط غيوم قاتمة من مظاهر جهل تتمثل في تنامي مستويات الأمية فضلا عن انتشار الأمية الثقافية، ومظاهر تراجعنا في مختلف مناحي الحياة وغير ذلك مما لا يتسع له المجال هنا، وتبوء كل محاولاتي للهروب بالفشل الذريع لتصفعني تلك الإجابة بقسوة:
وماذا عسانا فعلنا بما تبقى لنا من ذلك التراث الذي نتباكى على ضياعه؟!
نعود إلى ذلك المشهد الذي يلازمني منذ سنوات بعيدة؛ ليجعل الألم يبلغ مني مبلغا، لماذا أتذكره وأتخيله أمامي؟! ولماذا يحترق قلبي حسرة كلما مر في خاطري؟!
هل تخيلت يوما أنه ربما يتكرر في مشاهد حية أمام أعيننا؟ ولكن كيف؟ ألم ينتهِ زمن التتار وهجماتهم؟؛ ليطل ذلك الشبح الخبيث الذي يتلذذ باستفزازي، يتراءى أمامي، ساخرا من سذاجتي الشديدة؛ وكأني به يصرخ في وجهي:
ألا تفهمين؟ ألا ترين؟ ألا تسمعين؟ لم ينتهِ زمن التتار؛ فالتتار فكرة والفكرة لا تموت!
أصرخ في وجهه: أيها الشبح الشرير، ماذا تريد؟ انصرف، أكره وجهك القمئ، ابتعد عن مخيلتي، يزداد اقترابا، كلما اقترب تزداد بشاعة وجهه وضوحا، ماذا تقصد بكلامك؟ يأتي رده واثقا ساخرا،
يرد بوجه قاس: التتار في كل مكان وفي كل زمن فهم أمة لا تموت؛ طالما توفر لها الزاد الذي تقتات عليه؛ وما زادها سوى التخاذل والغباء والضعف والتهاون في نيل الحقوق، ويا له من زاد! أنت حزينة على ضياع تراثكم، حضارتكم، فكركم، على أيدي التتار؟ حزينة على حرق دار الحكمة؟ فماذا يحدث الآن؟
كم من دار للحكمة قد دُمرت؟ وماذا فعل تتار عصركم بما تبقى لديكم من فكر وثقافة وحضارة؟
فهل تعلمتم حرفا واحدا من دروس التاريخ؟
التاريخ معلم قاسٍ يقدم لكم درسه الثاني بعنوان عريض بعرض مأساتكم:
{من لم تعلمه الصفعة الأولى فهو لا يستحق سوى الصفعة الثانية}
ومن كانت الصفعة الثانية من حظه فأمامه طريقان:
إما أن يجعل وجهه ساحة لتلقي الصفعات من كل مارٍ بدربه
وإما أن ينهض واقفا على قدميه، يجلو صدأ عقله، ليصير طالبا مجدا ومستعدا لسماع دروس التاريخ وفهمها وتعلُمها والعمل على أساسها
لا يقولن أحد أنه لا داع للحديث في الماضي؛ فإن من لا يتذكر ماضيه، فهو يظلم حاضره، ويهدر مستقبله.
يجب أن نتذكر الماضي لنتعلم من دروسه؛ ولنستمد منه جرعة الثقة بالنفس والشعور بالعزة والكرامة التي تعيننا على مواصلة طريقنا.
======================
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه وإلى أن نلتقي مع
{قهوة يوم الجمعة القادمة}
أترككم في رعاية الله وحفظه، دمتم جميعا بكل الخير
أرق تحياتي/ رجاء حسين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق