الجمعة، 22 نوفمبر 2019

الحب الأعزل بقلم هدى حجاجى احمد

الحب الأعزل
هدى حجاجى احمد
استقبلتني عيناها بمزيد من الإبتهاج ،خطونا في نفس الطريق الموازي للمحطة ، أسرتني بصفاء روح يسكن مآقيها ولم تنبس بحرف ، غمرت في عالمها البسيط .
زعق القطار الأول في أذني ، مددت يدي مضطربا أتلمس أناملها الدقيقة ، لما أحسست بيدها تستكين في كفي قلت متنهدا
فتشت عنك كثيرا في كل الوجوه وتراجعت مذعنا لقانون الصدفة على أمل أن نلتقي ولو بعد حين ،
رفعت كفيها الصغيرتين ترتب خصلات من شعرها تهدلت علي الوجنتين ، قالت :
وتقابلنا مرة أخرى .
تحدثنا كثيرا تحت قرص الشمس الصاعد إلى كبد السماء ناشرا أشعته الذهبية باتساع الكون ، أغرق الأرض دفئا ، جدد الحياة في خمائل الورد ، جلسنا حينا ، تضاحكنا وركضت حينا على العشب الأخضر وقالت تسترد أنفاسها المتلاحقة ، نادتني ، قفزت من الحلم الوردي على صوتها الحالم :
دوما أنت شارد .. ورنت تستنشق عبير زهرة فاحت نضارتها .. نما الحلم الغصن .. تراءى لي والدي يحمل هراوته المصنوعة من الخشب الزان ، في منتصفها رقائق من الصفيح المتآكل ثبتت بإحكام :
اذا لم تعرف كيف تربح الجنيه فأنت لا تستحق الحياة ..
أجثو على ركبتي تدنو تفترش الأرض بجواري ويشب من وجهي سؤال
أين أنا منك ؟
الآن تسأل .. تقولها بنبرة عذبة معاتبة .
يرفع والدي الهراوة الموصولة من المنتصف يصوبها لرأسي : عقلك صدئ ، لم يعد يرجى منه .. هاتان العينان الوادعتان وجدت فيهما معنى صادقا لا يحتمل الشك ، ظللت طويلا أبحث عنه أشحذ مشاعرها ، أحثها لكي تنطق بها ، بدلال تحاورني .
أستطرد باصرار : وماذا بعد ..؟!!
تستفسرني قلقة : بعد ماذا !
الحب الأعزل !.
تبتسم وبتفاؤل ترد : يكفي هذا .
تبتسم وبتفاؤل ترد : يكفي هذا .
يكز على أسنانه ويهوي بالهراوة على رأسي : واهم أنت ، تلهث وراء السراب ، تدفن رأسك بين الكتب صباح مساء والعالم من حولك يعج بالحركة .. قبرت في جبانة خاصة ولم تع صوت الأشياء .
هراوة أبي صنعت في رأسي آلاف الذبذبات
..سأسافر .. سأهاجر ..
حاصرتني عيناها فاخترقت نظراتها حشدا من الافكار تطاحنت داخل عقلي .
لماذا تهرب ؟
جرى بصري على الأسفلت الناعم المحمل بالسيارات الفارهة وبشر يندسون في ملابس مزركشة أنيقة .
كانت الشمس تنتفض من الشرق بأبهه ووقار وبائع الصحف يصدح وينادي أخبار .. اهرام .. جمهورية ..إقرأ آخر حدث المليونير النصاب الهارب ..
تستطرد في أذني بنغمة ساخرة : المال ؟.. أسترسل في صمتي .
كلماتك تسحب الأمان من تحت قدمي .
عدا طفل أمامي قابضا بيده علي قطعة حلوي ومن الخلف كانت أمه تعدل من خطاه المترنحة ،، لما تعثر رفعته إلى صدرها وقطعة الحلوى ملء فمه .

أطالت إلي النظر، مزق سؤالها شرودي المتواصل أراك تحب الأطفال !
قلت متأسيا : أخاف أن أتعثر والطريق خال من المارة، بدأت لا أفهمك .
انفجر حانقا في وجهي : فاشل .. فاشل !
طوقت يدي بذراعيها ، وهي متكئة برأسها على كتفي همست : نقهر بالحب المستحيل .. كتمت أنفاسي .. تكورت الكلمة في صدري ثم هوت إلى أقصي مكان بأعماقي ، صحت حين سقطت قدماي سهوا في بركة ماء أسود لونه ،
والخبز والكساء والمسكن ..
لاحقتني ويدها لا تزال تضغط بإلحاح فوق إبهامي بلا حب الخبز عطن ، قلوبنا عارية ، مقوض البناء .
انتهرتني عصاه بفظاظة اذهب للشارع وحينما تخلع عن رأسك شيطان الكتب ستعود ممتلئ اليدين .
التقطت حجرا من الأرض المتربة ، طوحته بقوة في جوف احدى الأشجار ، أبتلعته قهرا ، علا حفيفها وفر طائر مذعورا ،
أعنفها بشدة .. رومانسية للغاية ، قد يتسرب العمر من جلد رأسك مع خصلات الشعر الأسود .
شيعني بها يائسا قبلما أكر الدرج " لعلك تخرج من هذا القمقم .."
تتورد وجنتاها خجلا ، سحبت جسدها برفق وصنعت مسافة بيننا .
أخذت تضيق خطواتنا إلى أن شحب وجه الشمس .
زعق القطار الثاني في رأسي ، أفلت من يدها ، هرولت على الطريق المزدحم لرصيف المحطة ، بائع كتب وجرائد وسط الزحام يجوب هاتفا , أخبار ، أهرام ، جمهورية ، يحجل في مشيته ، يتخبط في الزحام وسط المارة ، سد علي الطريق .
تحش ساقي هراوته الزان المتآكلة ، اندفع بشدة أكثر ترنح البائع وتناثرت أوراقه تحت قدمي .. ألهث لكني لا أتوقف ، أمرق من بين الأكتاف وآخر كلماتها تتعقبني .. مجنون .. مجنون