ترانيم الفاجعة.
كان طفلا بريفه المطحون
كما تطحن حبيبات قمح
بين فكّي رحى جائعة
وكان يحلم أحلاما بسيطة
كأن يعثر يوما على ملاليم
خبّأها للزّمن واحترق كوخهم
وقيل له : ما أكلت نيران
ملاليمك الضّائعة
وظلّ أعواما يفلّي الرّماد
ويخربش طلل كوخ بأنامل
وبعيدان تتثنّى وتنكسر
فيعود لأمّه بأعين دامعة
فتكفكف دمعا وتضمّ روحا
وتبسط كفّين وترفع رأسا
وتخاطب ربّها باكيّة
خاشعة
ربّاه إن وصل صوتي فلا تصدّ
دعاء أمّ تستحمّ كلّ صباح
بدموع فلذات وتهرس عشّها
قهقهات وجوه مائعة
كان طفلا اكتهل باكرا
اكتهل في السّابعة
حين عصف ظلم يربك
شهرزاد ويلغي حكاياتها
الذّّائعة
وكان يسّاءل متى يا الّله
متى نعيم "الواقعة" ومتى
يرى بهاتين الدّامعتين
قصف من ظلم بعذاب
"القارعة" ؟
كان طفلا بإحساس شيخ
حين أنزلت السّماء ظلما
وأنبتت الأرض ظلما ولثلاث
كان لحنهم ترانيم الفاجعة
كان طفلا حين رأى بكاء جدّ
وكسوف شمس وخسوف قمر
وحنين أرض لمظلوم لم تعده
الأكفّ الضّارعة
كان طفلا يعدّ كلّ صباح فراخ
دجاجات ويلامس قرني جدي
ويلاعب شقيقاته ويطالب السّماء
بحقّ أسرة في حياة وادعة
وذات صباح تشريني أقفرت
قلوب وبكت ضلوع وغاب
عن السّمع رجعُ الصّدى وقهقهت
كلاب جائعة
كان طفلا حين افتقدت الأشجار
ظلّها وترنّحت الشمس في سمائها
و همس التّراب في أذن الرّيح
تمهّل ههنا عقارب لاسعة
ههنا كلّ أراجيف الزّمان عصفت
بأرواح صغيرة وبعثرت أحلاما
صغيرة ومزّقت ستائر بوح
ونعت في حينها الرّاقعة
ههنا ضباع تفتي في الطّهر
وخنزير يشتري فرشاة أسنان
وغربان تقسم بالمقدّسات أنّ
لياليها غدت بيضاء ناصعة
ههنا تجفّ عين بروافد سبع ما اكترثوا
وشقيق ظلّ لاذ بصمت وأولياء
صالحون ما اهتزّت جفونهم وما
رقّت قلوبهم لأعين دامعة
ههنا يُوَسَّمُ خسيس وتنتخب
بومة صاحبة أجمل صوت
وينام أوباش ملأت بطونهم
شجرة سحت وما كفّت عن
عفن وجوه خانعة
ههنا ضبع يزدرد "نفّته"وثعلب
يجرجر ثعالته وأعناق تشرئبّ
إليهما وتستفتيهما في أحكام
الزّكاة والحجّ و أحكام الإرث
والقرائن المانعة
ههنا قمصان تسدّ أنوفنها
قرفا من نتن لابسيها
وحجار تيمّم تلعن معدنها
وتحلم أن تغدو أفاعي
تعتَّق سمّها حين تلامسها جلود
أياد لاكعة
ههنا الحرام يروي للحلال سيرة
مُسخ تُخجل الشّيطان وتنتكس
عند سماعهاالشّطآن وتُلبس عليسة
جلد ثورها أوّل جمجمة تصادفها
وينتحر البدر بأنواره السّاطعة
ههنا يعلن الخير أنّ الشّر في المخيال
براء من تهم علقت به وأنّ الرّحمان
يبتلينا ليُرى صبرُنا وأنّ اليمين والشّمال شقيقان رضعا من أمّ واحدة رضعة جامعة مانعة
كان طفلا حين قرّر الطّوفان زيّارتهم
وحلقّ وطواط في واضحة النّهار
بساحتهم وتذكّر جدّه عرّافا أخبره:
سيُحجب عنك الظّلّ لثلاث وترقص
في عرين الاُسْد جرذان بائعة
كان طفلا بعقل رجل وإحساس رجل
وجسد معنّى حين تحالف التّراب والهواء
وعقد الماء ولنّار جلسة صلح
ودخّنا النّارجيلة في جلسة ماتعة
وحين كبر قليلا وعاد الظّل إلى موقعه
أبصر بدرا أضاء حناياالرّوح
وسكن طيّ الضّلوع
وفجأة غاب البدر فراح يسأل
السّماء إن رأت شمسه طالعه
واستحال سديما لأيّام ثمّ عاد
يبصر فماذا أبصر ياترى ؟
رأى جحشا يلبس "الدّجين "
يغازل البدر وتنزل إلى مربضه
النّتن سامعة طائعة
هذا غيض من فيض حكاية طفل
مهووس بالشّموخ ويأنف من
الولوغ في مياه عكرة
أوَ لم يقل حكيم : إنّ الجوارح
لا تأكل ممّا ذبح الغراب :
حقيقة ساطعة
*أحمد مال * أم العرائس * تونس*