مصير
على كرسي متحرك، تدفعه إلى ركن قصي من حانة شاحبة الملامح، خفتت
أضواؤها، و تعالت أصوات روادها، تختلط فيها روائح عطور رخيصة بروائح الخمرة
و السجائر لتسد جميعها النفس و مداخل الهواء ... تصدح الست :
" أروح لمين ؟ و أقول يا مين ينصفني منك؟
ما هو أنت فرحي و أنت جرحي و كله منك ..."
تضع على طاولته قنينة "بيرا " ، تشعل سيجارة، و تمدها إليه. يأخذها
بيسراه المرتعشة. تدير ظهرها، و تلتحق بالشغل. تشتغل دون كلل؛ تشرب كأسا مع
أكرش مسن، تمسح رأس أصلع، تهمس في أذن أطرش كلمات، فينفجر ضاحكا، ترفع
كأسها لزبون جديد، فيرتفع ضغط شهوته ، تحكي نكتة عارية تفجر ضحكات
المخمورين ...
يتابع شغلها ... يرى نفسه لاهثا على قدميه
إليها، و قد ترك ، وراءه ، وردة تذوي و براعم جائعة ... يلبي كل طلباتها، و
يزيد عليها ليعود آخر الليل مخمورا مفلسا. يتيه في أدغال ذاكرة علا معظمها
الصدأ، يحاول اقتناص لحظة فرح شاردة، بالكاد يقبض على ذيلها لتنقض عليها
لحظات حزن ضارية .... و تصدح الست : " و اليوم في بعدك بيفوت سنين، أروح
لمين؟"
و يردد في قرارة نفسه، بعدما خانه صوته كما خانته قدماه و يده
اليمنى و ... يردد : " أروح لمين؟ و مين ح يرحم أسايا ؟ و أقول يا مين و
مين ح يسمع نداي؟ ... ما ليش حبايب في الدنيا ديه ... "
تتابع
شغلها ، تعب كأسا مع هذا، " تتفاصل " مع ذاك ، تهدي قبلة لآخر ، و ...
يبلغ السكر منها مبلغه، تتهالك في حضن برميل أشيب و ...
تبدأ
الرؤوس المشبعة خمرا تتثاقل، و يبدأ أصحابها ينفضون جيوبهم ليغادروا ...
تهمس في أذن النادل، و تدس في جيبه ورقة خضراء. تتأبط ذراع البرميل، ترخي
رأسها على كتفه، و يغادران يترنحان ... تتبعهما عيناه إلى باب الحانة،
ترتدان لتغرقا في ملح العيون، فيناشدهما :
" أ عيني ، لا تجودا، و اجمدا،
لا تبكيا صخر العدم ... "
يغادر الزبائن تباعا، ينتظر دوره خلف طاولته البئيسة، تؤثثها قنينة "
بيرا " فارغة ، و منفضة سجائر . يغلبه النعاس، فيسقط رأسه على كتفه ...
كتلة عظام عليلة، التصق بها الجلد بعدما غدرها اللحم و هجرها، يحمله
من على كرسيه المتحرك ، يضعه على فراش مهترئ مقعر ، يناوله سيجارة محشوة ،
و يغادر .
يسحب أنفاسا عميقة متتالية ، ينفث آهات متقطعة ، يطارد خيط ذكرى ينفلت و يحرر دمعه.
خديجة أجانا / المغرب