الجمعة، 4 سبتمبر 2020

قراءة نقدية، بقلم الناقدة رجاء البقالي لقصيدة (كم وكم) للشاعرة: زينب الحسيني

 قراءة نقدية، بقلم الناقدة رجاء البقالي لقصيدة

(كم وكم) للشاعرة:
زينب الحسيني _لبنان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(نص القصيدة)
كم وكمْ .
تتناثر الآهات في فضاءات الشَّوقِ
ذكرياتٍ في رحى الغياب تدورْ ..
يوم كان القمر يعزف سيمفونية الوصل
في لحظاتٍ مترعةٍ بسمر العشق
ورعشة الأغصانِ لصدى الهمس ..
كم ثملنا بأنغام انتفاضِ الموجِ
على شفاه الشاطىءِ..
يا رفيقي نحن أوراقٌ تتناثرُ
في مهبِّ ريح
صخرة صمودنا عاصفة هوجاء ..
كم شقيَّةٌ غربتنا في الأمكنةِ
وفي اللاأمكنةْ ..
كم تعِسٌ تهجيننا
غبيٌّ تدجيننا
وكم نعاود تجريب الطُّرقاتِ
التي تخلع أثواب البداياتْ..
نفتِّش عن كوىً للنُّورِ
في الصخورْ ..
العالم من حولنا
تمساحٌ بعيونٍ زجاجيةْ
ودموعٍ من شرارْ ..
كم يلزمهُ من ماءٍ ونارْ
كي يغسل العارَ
الذي دنَّس طهر البشريَّةْ
.................
(القراءة)
شعرية النهايات، العتمة والموت تجعلنا أمام مشهد كوني يعج بالجمال، بالنغم، على أشرعة دفق الشعر المنساب عمقا وإحساسا..
شاعرتنا القديرة الأستاذة زينب..
تجيدين سبك الغربة الوجودية والروحية في آن..
فبين اغتراب للذات على أرضها، وغربة خارج كل الأمكنة يقبع الوعي محاصرا بين ماضٍ ولّى، وآت لن يأتي أبدا..
وحده الوعي المثقل بالذكرى والنابض بالأمل الموؤود يقف في بيداء تتصادم فيها الإخفاقات عند لحظة وعي شقي بأنه لا مفر..
فالذات ملقى بها في مشهد كبير، كل دورها حنين الى ما كان، وتوق مفعم باليأس إلى ما سيكون..
فلا حضور إلا للغياب يرسم الفقد ذكرى أبدية في حضور بئيس، تناقض يطبع كل الكون كما الذات، تتعايش الأضداد في قلب صراعها الأبدي ..
جدلية تطبع صيرورة وجود لا تدركه إلا ذات شاعرة متأملة ومرهفة..
تواشج عقل و روح
تأمل وحدس
هما وراء هذه اللحظة الراعشة الحيرى، رسمتها الشاعرة حالة وجدانية تماهى فيها النبض الشعري الدفِق بنبض الموج..
صورة من التناغم بين انتفاضة بحر تستكين عند شفاه الشاطئ بعد صخب، وانتفاضة روح ثملة نشوى برقص الشوق على أنغام الوصل، ناسجة من الغياب رحى لذكريات تدور وتدور..
مرفأ عاشقين يرفع الحب إلى مراتب روحية ترقص في فيئها روحان دورانا فيذوبا في عشق أكبر .......
أي صورة هي لذكريات تدور في رحى الغياب الذي ينقلب حضورا في وعي وخيال شعري دفاق..
لحظة هدوء في سمفونية كون بعد صخب العزف، تنشدها الروح ثملةً..
ترسمها الشاعرة ابتسامة على شفاه شاطئ يتأهب..
ينتظر...
وفعلا...
جاذبية الأرض لا ترحم.. فهاهي الروح تنزل من عليائها حيث يقظة الوعي المرعبة، تفيق على مشهد وجودي مأساوي يلفه العبث.
ها هي الذكريات تصطدم بجدار الواقع الصلب والقاسي:
يا رفيقي
نحن أوراق تتناثر
في مهب ريح
صخرة صمودنا عاصفة هوجاء
فتلك الثمالة، وذلك الرقص على نبض الموج سينقلب ثورة لروح سقطت من رحابة السماء الى بئر الأرض، مستنقع الشر والقبح حيث العدم والعبث، فالمكان واللامكان سواء..
ما بينهما خواء ذات وضياع ولهاث نحو خلاص تنشده الشاعرة خطوا تلو الخطو، تنسجه خيوطا تقودها الى البدايات....
ما أجمله عوْدًا إلى الصخر بحثا عن كوى ضوء تشع..
كم شقية غربتنا في الأمكنة
وفي اللاأمكنة..
كم تعِي تهجيننا
غبي تدجيننا
كم نعاود تجريب الطرقات
التي تخلع أثواب البدايات
نفتش عن كوى للنور
في الصخور
يا لها من صورة
أهي صخرة سيزيف؟
أم مجاهدة صوفي يرتقي الى النور نبشا في الصخر؟.
كم هو شائق هذا التواشج بين نفَس اسطوري وحدس إشراقي نقطة تقاطعهما ذات تشقى، لكنها هنا تتعالى على العدم والعبث الوجوديين بانعتاق روحي، عروجا الى بقعة ضوء في صخرة الذات الصلبة بنوازعها وعتمتها..
إنه المخرج من يأس مطبق لمواجهة عالم الشر والزيف:
العالم من حولنا
تمساح بعيون زحاجية
ودموع من شرار..
عالم شبهته الشاعرة بتمساح بعيون زجاجية لا يعرف إلا ذرف دموع من شرار النار تحايلا واستدرارا للشفقة..
ما أبلغها صورة لعالم مستكين كتمساح في مياه آسنة لا يجيد إلا البكاء، بينمها في داخله تشتعل نار النوازع الملتهبة.
فكم يلزمه من ماء ونار
ددكي يغسل العار
الذي دنّس طهر البشرية
صورة شعرية كونية تحصر المأساة في نطاق الذات
مسائلة ضميرا استكان الى هزيمته واحتمى بغفوته، لن توقظه إلا ثورة ذرات الكون، تنهض من جديد، لتشكل عالما آخر...
ماء ونار ...
هواء (ريح) وثرى..
بحر وصخر، ولقيا نبضِ موجٍ راعشٍ هامس، بريح عاصفة تحطم عيني تمساح العالم، لينتثر شظايا لن تلتئم من جديد إلا بتلمس شعاع الضوء في في كوة الذات المتصلبة كصخرة ملقاة في العراء..
ما يلفت في قصائدك شاعرتنا هذا التناغم اللافت بين النهايات والبدايات، بين الظلمة والنور، بين الهمس والصخب،...
رؤية تؤلف بين الفلسفي والصوفي، ونبض شعري يصل الروحي بالعقل، الرومانسي البشري بالعشق الإلهي في دائرة وجود هي أيضا دائرة زمن، اللحظة فيه ذاكرة تصل بين ما كان وما سيكون...
لك كل التحايا شاعرتنا الإشراقة
عمق وشفافية..
هي ترنيمتك هذه، وكل ترانيم عشق، تعزفينها بقيثارة، أوتارها يتماهى فيها البشري بالإلهي، ليكون نشيد غربة الوطن هو نشيد لغربة أعظم:
غربة الروح...
فكم نحن غرباء على أرضنا....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق