قصة قصيرة
لقاء معي لن يتم
الكاتب : يسري ربيع داود
حديث الذكريات لا ينتهي ، خصوصاً بعد تقدم العمر وتراكم الخبرات والحصول على نعمة جديدة تضاف إلى نعم سابغة سابقة. الأماكن التي تساعد على حديث الذكريات وتدفقها كثيرة جدا، وعقلي الباطن ممتليء بها ويستوعبها في حالة بديعة من حالات الانسجام و أكثر تلك المراجعات كانت في المواصلات العامة التي انقطعتُ عنها منذ سنوات. كنت أهوى الجلوس في أتوبيس الهيئة بجانب الشباك لأرى الأرض وهي تجري بجانبي ومن أمام الحافلة بسرعة هائلة وتُطوى من أمامنا طيًّا لتحضر لنا المكان الذي نتوجه إليه، كنت وأنا صغير لا آبه بالمطبات ولا بالتوقفات المفاجئة ولا أقبل أن تتغير أبدا فكرتي عن طريقة عمل الحافلة التي لا تتحرك ، هكذا كان دورها بالنسبة لعقلي الصغير، علينا فقط صعودها، وعلى الأرض القيام بواجبها، لم أتساءل ابدا عن دور السائق في عملية التوصيل للمكان المطلوب، ولا عن الجدوى من تحرك العجل، لأنني لو سألت أبي لم يكن يجيبني في كثير من أحواله. جلست اليوم في نفس المكان بجانب الشباك ، حتى في الطائرة لا أجلس إلا بجانب الشباك ولو كلفني ذلك النزول كآخر فرد فيها، نعمة التبصر والتفكر اعترف بوجودها وألزم التفكير في كل شيء حولي في كل لحظة من لحظات صمتي، ولكن في هذه المرحلة العمرية تغيرت الحافلة فأصبحَت VIP, حتى أنا تحولت أمام نفسي إلى VIP, ولم لا وأنا أراني كبرت عن ذي قبل؟.. ارتدي بزة أنيقة محترمة، و نظارة، وحذاء فاخرا،حتى مشيتي وتفكيري وإشاراتي وردودي وكلماتي وحلول المشاكل وخريطة معاملاتي، كل ذلك تغير حتى الناس أغلبهم من حولي تحولوا إلى النوع الفاخر من البشر ، وأصدقائي من حولي وفي عملي يعاملونني على أني متميز، وفي كل مكان صرت أسمع من يناديني ( ممكن لو سمحت.. اتفضل يا عمو، من فضل حضرتك.. لا ما يصحش لازم حضرتك الأول ...) إلى آخره من هذه التعبيرات الفخمة التي تنبيء بشيء واحد فقط عندي وهو أني تقدمت في العمر وصار لزاما على من حولي معاملتي بنفس ما كنت أعامل به الكبار. حدقت النظر في حافلة أخرى بجواري فوجدتني شاردا إليه، نفس الشكل ونفس الملابس الشبابية، الشعر الكنيش المسحوب على الجبهة بعناية بالشوكة الحديدية، ونفس نظرة العينين العسليتين ، تلك النظرة التي أعرفها عندما كنت افكر في شيء ما، وهو نفس الشرود الذي تعلمته من والدي، فعندما كان أبي يفكر.. فلا يرد عليّ عندما أناديه، كنت أحسبه لا يحبني بمنطقي الصغير، لكنني وأخوتي حتما كنا محور تفكيره، هكذا علمت عندما كبرت ونظرت نفس النظرة وشردت نفس الشرود، لكن أبي أحيانا ما كنت أسمعه يحدث نفسه، كنت أركب رديفه على حمارتنا الفخمة البيضاء ببرذعتها الحمراء، واسترق إليه النظر من خلفه فأجده يحرك يديه وهو في تلك الحالة من الشرود والحديث النفسي. أشرت إلى الفتى في حافلته لكنه لم ينتبه، ظل عالقا بذهني، إنه أنا.. إنني أعرفني جيدا وطالما عشت في داخله طيلة ثلاثة عقود من الطفولة والشباب والعقل المستنير والرغبة في إثبات الذات والعمل الدؤوب حتى أُصبحَ شيئاً جيدا في يوم ما، غابت الحافلة عن عيني وفشلت في لفت نظر الفتى الذي يشبهني، أرحت رأسي على ظهر مقعدي، في الوقت الذي أشارت لي زوجتي بكأس من العصير، فاعتذرت مبتسما واستسلمت لهزات الطريق، وضعت سماعة الأذن لأستمع إلى سورة البقرة وهي عادة أداوم عليها من فترة إلى أخرى. بعد قليل وجدتني إلى جانبه، نكزته في كتفه الأيمن بلطف، حركت يدي أمام عينيه بابتسامة لطيفة، داعبته بكلمات من التسعينات : (ايه.. ما بك يا عم الشباب .. مابك؟ .. أكلمك منذ فترة) .. ابتسامة عذبة لا تفارقني لأنني هو.. وهو أعز علي مني الآن.. ولم لا وهو أنا.. انتبه الفتى الأسمر وتناول منديله الورقي ليمسح جبينه الذي يتصبب عرقا، فالحافلة بالفعل حارة جدا خصوصاً في ذلك الوقت من الصيف الذي يتعانق بتأفف مع ميدان رمسيس الممتليء عن آخره بالسيارات والباعة والحركة البركة.. نسيت أنني أنا لا أحتمل ذلك الزحام وتلك الحرارة، وأنني لا أستطيع التعامل بنفس مهاراتي السابقة مع حر الصيف ولا مع زحام المواصلات .. رمقني الفتى، واستدار إليّ برأسه، نفض رأسه بحركة لا شعورية يمينا ويسارا وكأنه يريد أن يستفيق على شيء مدهش، وأكمل استدارته بالجسم كله مع اتساع حدقة العين، خفت من دهشته وقلت له : إنني أنت.... نفس ابتسامتي رسمها على وجهه الذي بدا نحيفا وأكثر سُمرة، ولكنها ابتسامتي على كل حال، فهي لا تفارقني منذ أن كنت في جسمه قديما، ربَّتُّ على كتفه، وهدّأْتُ من روعه، قلت له : أراك حزينا، فلماذا يا أنا ؟.. أجابني : بالأمس أقبل علينا الليل مع زوجتي وأحسسنا بالجوع فلم أجد معي ما يعينني على ابتياع شطيرتين من البائع.. عبثا حاول منع دمعة من عينه.. فسبقته إليها ومسحتها.. وقلت له : نعم أتذكر، ولكن أنظر إليّ، كيف أصبحتُ، وكيف بدا عليّ أثر النعمة.. اندهش وكأنه يقول لي : ماذا تقول يا أنا؟.. قلت له استمر في طريقك، لا تدع البسمة تفارق شفتيك، ستمر عليك أياما أكثر صعوبة، ولكن انظر إلى مآلك الآن ، فهكذا ستصير بعد الصبر.. فابتسم لي وقال بفرحة وتتابعت الكلمات تترى : إنني أخذت الماجستير بعد عناء ورغم الصعوبات.. وأنا الآن في طريقي إلى العتبة لأشتري متطلبات المحل.. لا بد أنك تتذكره.. وبعدها اتجه إلى الجامعة لمقابلة المشرف على رسالة الدكتوراه... وو.. استمعت إليه، ابتسمتُ للهجته ولعفويته، رغم علمي بكل ذلك، و استشعرت لذة تلك الأيام تمر أمام نظري، فلست بحاجة إلى أن يخبرني بها، ولكنني مضطر للاستماع وإبداء الدهشة حتى إنني لم أرد أن أخبره بأن أستاذ النقد سيرفض تعيينه في الجامعة لأنه فلاح، هكذا سيقول له الدكتور بتنمُّر ، لم أرد أن أخبره بوفيات ستعانق أقرب الناس إليه، تركته بحالة التفاؤل التي انتابته فجأة بعد أن عجز بالأمس عن توفير خمسين قرشا لشراء شطيرتين، انتبه الي وتحسس بدلتي، يمرر يده بفخر على بدلته التي سيلبسها بعد عقد من الزمان، تبدو أجمل مني، وامتلأ جسمك، حتماً تأكل ما تريد وأيّ شيء تريد، قالها لي بفخر وحب.. أجبته بابتسامة تعني الوجوب، وطلبت منه أن يخبرني بأسعد شيء واجهه في الفترة الأخيرة، أخبرني والبشر يملأ قسماته بأنه اشترى حجابا لأمي، وعندما رأى فرحتها وقابل سيلا من الدعاء لنا ابتهج وتمنى لو كان عنده المال ليشتري لها كل غال ونفيس، ولكن ما باليد حيلة يا أستاذ.. اااا. .. قلت له : أنا أنت.. هل تشك في ذلك؟ قال لي : أشعر بأنني منك، ولكن أين أنا من تلك الطلة وجمال البسمة وأثر النعمة؟ تمادى في النظر إلي، و تماديت في التوقيع على ملامحي القديمة ولم أنتبه إلا ودمعة تسقط على وجنتيّ، ويد زوجتي تسبق إليّ لتمسحها، وتقول لي : خيرا إن شاء الله، إنها دموع الفرج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق